الأساليب النبوية في معالجة الأخطاء :-
(
الهدوء في التعامل مع المخطئ
وخصوصا عندما يؤدي القيام عليه والاشتداد في نهيه إلى توسيع نطاق المفسدة ويمكن أن نتبين ذلك من خلال مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم لخطأ الأعرابي الذي بال في المسجد كما جاء عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْ مَهْ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَأَمَرَ رَجُلا مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ صحيح مسلم رقم 285
لقد كانت القاعدة التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم في مواجهة الخطأ: التيسير وعدم التعسير، فقد جاء في رواية البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهُ وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ أَوْ سَجْلا مِنْ مَاءٍ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِين فتح 6128
لقد تحمّس الصحابة رضوان الله عليهم لإنكار المنكر حرصا على طهارة مسجدهم وروايات الحديث تدلّ على ذلك ومنها: ـ
" فصاح به الناس " - " فثار إليه الناس " - " فزجره الناس " - فأسرع إليه الناس " وفي رواية " فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه " جامع الأصول 7/83-87
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم نظر في عواقب الأمور وأن الأمر يدور بين احتمالين إما أن يُمنع الرجل وإما أن يُترك. وأنه لو مُنع فإما أن ينقطع البول فعلا فيحصل على الرجل ضرر من احتباس بوله وإما أن لا ينقطع ويتحرك خوفا منهم فيزداد انتشار النجاسة في المسجد أو على جسد الرجل وثيابه فرأى النبي صلى الله عليه وسلم بثاقب نظره أن ترك الرجل يبول هو أدنى المفسدتين وأهون الشرين خصوصا وأن الرجل قد شرع في المفسدة والنجاسة يمكن تداركها بالتطهير ولذلك قال لأصحابه: دعوه لا تُزرموه أي لا تحبسوه. فأمرهم بالكفّ لأجل المصلحة الراجحة وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما
وقد جاء في رواية أنه صلى الله عليه وسلم سأل الرجل عن سبب فعله، فقد روى الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فبايعه في المسجد ثم انصرف فقام ففحج ثم بال فهمّ الناس به فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: لا تقطعوا على الرجل بوله، ثم قال: ألست بمسلم ؟ قال: بلى، قال ما حملك على أن بُلت في مسجدنا ؟ قال: والذي بعثك بالحقّ ما ظننته إلا صعيدا من الصعدات فبلت فيه. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فصبّ على بوله. رواه الطبراني في الكبير رقم 11552 ج11ص220 وقال الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح 2/10
إن هذا الأسلوب الحكيم في المعالجة قد أحدث أثرا بالغا في نفس ذلك الأعرابي يتضح من عبارته كما جاء في رواية ابن ماجة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِمُحَمَّدٍ وَلا تَغْفِرْ لأَحَدٍ مَعَنَا فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَقَدِ احْتَظَرْتَ وَاسِعًا ثُمَّ وَلَّى حَتَّى إِذَا كَانَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَشَجَ (فرّج ما بين رجليه) يَبُولُ فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ بَعْدَ أَنْ فَقِهَ فَقَامَ إِلَيَّ بِأَبِي وَأُمِّي فَلَمْ يُؤَنِّبْ وَلَمْ يَسُبَّ فَقَالَ إِنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ لا يُبَالُ فِيهِ وَإِنَّمَا بُنِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ وَلِلصَّلاةِ ثُمَّ أَمَرَ بِسَجْلٍ مِنْ مَاءٍ فَأُفْرِغَ عَلَى بَوْلِهِ سنن بن ماجة ط. عبد الباقي 529 وهو في صحيح بن ماجة 428
وقد ذكر بن حجر رحمه الله تعالى فوائد في شرح حديث الأعرابي منها:
* - الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف إذا لم يكن ذلك منه عنادا ولا سيما إن كان ممن يُحتاج إلى استئلافه.
* - وفيه رأفة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه.
* - وفيه أن الاحتراز من النجاسة كان مقررا في نفوس الصحابة ولهذا بادروا إلى الإنكار بحضرته صلى الله عليه وسلم قبل استئذانه ولما تقرر عندهم أيضا من طلب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
* - وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع لأمرهم عند فراغه بصبّ الماء. الفتح 1/324-325