قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (2/172/173) ـ وما بين معقوفين زيادة مِنيِّ ـ : «وأمّا الرضى بنبيّه رسولاً فيتضمّن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، قال الله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾، فلا يتلقى الهدى إلاّ من مواقع كلماته ولا يحكم إلاّ إليه، ولا يحكم عليه غيره، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾.
ولا يرضى بحكم غيره ألبتة، لا في شيء من أسماء الربّ وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه ...، رضي كلّ الرضى، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه وسلّم تسليمًا، ولو كان مخالفًا لمراد نفسه وهواها، أو قول مقلّده وشيخه وطائفته، قال الله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾».
وقال أيضًا (2/142): «فهذا العلم الصافي المتلقى من مشكاة الوحي والنبوة، يهدي صاحبه لسلوك طريق العبودية، وحقيقتها: التأدّب بآداب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم باطنًا وظاهرًا، والوقوف معه حيث وقف بك، والسير معه حيث سار بك، بحيث تجعله بمنزلة شيخك...
فتجيبه إذا دعاك وتقيل حيث قال، وتنزل إذا نزل، وتغضب لغضبه، وترضى لرضاه، وإذا أخبرك عن شيء أنزلته منزلة ما تراه بعينك، وإذا أخبرك عن الله بخبر أنزلته منزلة ما تسمعه عن الله بأذنك.
وبالجملة فتجعل الرسول شيخك وأستاذك ومعلّمك ومربّيك ومؤدّبك، وتسقط الوسائط بينك وبينه إلاّ في التبليغ، كما تسقط الوسائل بينك وبين المرسل في العبودية، ولا تثبت وساطة إلاّ في وصول أمره ونهيه ورسالته إليك، وهذان التجريدان هما حقيقة شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدًا عبده ورسوله.
والله وحده هو المعبود المألوه الذي لا يستحقّ العبادة سواه، ورسوله المطاع المتّبع المهتدى به الذي لا يستحقّ الطاعة سواه.
ومن سواه فإنما يطاع إذا أمر الرسول بطاعته فيطاع تبعًا للأصل.
وبالجملة فالطريق مسدودة إلاّ على من اقتفى آثار الرسول صلى الله عليه وسلَّم، واقتدى به في ظاهره وباطنه».
وقال أيضا في (3/174): «بل إن سئل عن شيخه قال الرسول وعن طريقه قال الاتباع، وعن خرقته قال: لباس التقوى، وعن مذهبه قال: تحكيم السنة، وعن مقصوده ومطلبه قال: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾، وعن رباطه وعن خانكاه قال: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ﴾، وعن نسبه قال:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
وعن مأكله ومشربه قال: (مالك ولها، معها حذائها وسقائها، ترد الماء وترعى الشجر حتى تلقى ربّها)».